المحامي علي مردي السوداني
لقد تعود الكتاب العراقيون كلما استعرضوا كتاباً سواء كان مؤلفاً بالعربية ام مترجماً عن الكتب الاجنبية ام من الكتب الاجنبية نفسها. أن يستعرضوا هذه الكتب بشيء من الايجاز مشيرين الى ابرز مضامينها ولكن دون ان يبينوا الجوانب السلبية او النواقص الواردة فيها. وقد وجدت ان هذه الطريقة او هذا الاسلوب يعتريه النقص ويحتاج الى بيان الجوانب السلبية او النواقص في هذا الكتاب المستعرض او ذاك. وهذا ما درجت عليه حين اقوم باستعراض أي كتاب. ومن هذه الكتب كتاب قرأته أخيراً وهذا الكتاب قد ضم بين دفتيه كتابين وليس كتاباً واحداً، الكتاب الاول كان بعنوان الاسلام واصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق والكتاب الثاني كان بعنوان اصول الحكم في الاسلام للدكتور عبد الرزاق السنهوري. والكتاب الثاني يعتبر واحداً من الردود الكثيرة على الكتاب الاول. وقد قام بجمع الكتابين بكتاب واحد مكتبة الاسرة المصرية. التي تحظى برعاية السيدة سوزان مبارك زوجة الرئيس المصري حسني مبارك وقام بتقديم هذا الكتاب والتعليق عليه الناقد المصري المعروف الدكتور جابر عصفور لقد كان هذا الجمع خطوة موفقة وجيدة لفائدة القارئ الا انه كان يعوزه ان يحتوي على جميع او معظم الردود على كتاب الشيخ علي عبد الرازق ليكون القارئ ملماً الماماً واسعاً وكافياً بالموضوع لاسيما وان كتاب الشيخ عبد الرازق من الكتب المهمة منذ صدوره عام 1925 وحتى الوقت الحاضر. وقبل الدخول في اساس الكتاب بجانبيه لابد من ذكر بعض الملاحظات التي وردت في توطئة الدار الناشرة لافتتح بها هذه المقالة رغم ان هذه الملاحظات ليس لها علاقة مباشرة بهذا الموضوع حول اهمية القراءة في الحضارة. فقد ابتدأت هذه التوطئة بمقولة تقول- تعتبر القراءة منذ فجر التاريخ اول واهم ادوات المعرفة وعنصراً لا غنى عنه من عناصر بناء الحضارة- فمنذ ان نقش حكيم مصري قديم وصية ثمينة لابنه على ورق البردي تقول (يابني ضع قلبك وراء كتبك واحببها كما تحب امك، فليس هناك شيء تعلو منزلته على الكتب) ووجدت في هذه التوطئة مقولة اخرى للمفكر المصري طه حسين حول اهمية القراءة تقول (ان القراءة حق لكل انسان بل واجب محتوم على كل انسان يريد ان يحيا حياة صالحة) يضاف الى ما تقدم ان الدار نفسها قد وضعت شعاراً خلاباً يربط بين الحياة والقراءة يقول (القراءة للحياة) وقبل الدخول في اساس الموضوع لابد من القول ان الشرق عموماً والعراق خصوصاً عانى لعهود طويلة من التخلف والجمود والاستبداد تحت الحكم العثماني وما قبله وما بعده. وقد شاعت في اجوائه في هذه الحقب الطويلة روح التزمت والخرافة والتفكير الغيبي رغم بزوغ التيارات السياسية فيه في اوائل القرن العشرين. وقد شق ظلام هذه الحقب بعض رواد التنوير في هذا البلد او ذاك من بلدان الشرق كالأفغاني ومحمد عبده وعبد الفتاح ابراهيم والشيخ علي عبد الرازق ومن المثير للدهشة ان الكثير من المتنورين قد خرجوا من عباءة الازهر ومن بينهم علي عبد الرازق في كتابه- الاسلام واصول الحكم. وقد هدف وتوخي هذا المفكر بهذا الكتاب الى محاولة تقويض دعاوى الترويج لدولة الخلافة التي سادت في عصره بعد سقوطها بسقوط الدولة العثمانية. وبعد هذا التمهيد لابد من تقسيم هذه المقالة الى ثلاثة اقسام:
القسم الاول يتناول اهم افكار الشيخ علي عبد الرازق
والقسم الثاني يتناول اهم افكار عبد الرزاق السنهوري
اما القسم الثالث فيخصص الى ابداء بعض الملاحظات حول الكتابين.
القسم الاول/ اهم افكار علي عبد الرازق:- لقد أثار الشيخ علي عبد الرازق بكتابه- الاسلام واصول الحكم- ضجة كبرى يستحقها بجدارة لاهميته ابتداءً من صدوره عام 1925. حيث اعتبر من قبل الكثيرين خروجاً على المفاهيم السائدة عن الدولة الدينية وتأكيداً لدعائم الدولة المدنية. ومن الجدير بالذكر ان الشيخ علي عبد الرازق كان قد فقد وظيفته في القضاء الشرعي في مصر آنذاك ثمناً لاجتهاده الشجاع في الافكار التي طرحها انذاك وفي دعوته الى الحكم المدني في كتابه هذا. ومن المفيد التركيز على اهم افكار الشيخ علي عبد الرازق التي وردت في كتابه وعلى شكل نقاط:-
1-لقد تصدر كتابه التعريف بالخلافة لغة واصطلاحاً. فالخلافة لغة هي مصدر تخلف فلان فلاناً اذا تأخر عنه واذا جاء خلف اخر واذا قام مقامه. ويقال خلف فلان فلاناً اذا اقام بالامر عنه أما معه او بعده. وتعني الخلافة من بين ما تعني النيابة عن الغير اما لغيبة المنوب عنه واما لموته او لعجزه … الخ. والخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف. والخليفة تعني السلطان الاعظم. والخلافة في لغة المسلمين ومرادفها في المعنى الامامة وهي رياسة عامة في امور الدين والدنيا نيابة عن النبي. وتعني الخلافة اصطلاحاً ان السلطان او الحاكم خليفة رسول الله وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده ومن كان ظل الله في ارضه، وخليفة رسول الله. فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى وولاية رسول الله الكريم. وعلى هذا الأساس ان يكون الخليفة له حق التصرف في رقاب الناس واموالهم وابضاعهم وهناك رأي وفق علي عبد الرازق يذهب الى ان الخليفة اذا جار او فجر انعزل عن الخلافة.
2-هناك رأيان وفق علي عبد الرازق الاول يقول: ان الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوة الله تعالى. أما الرأي الثاني فيقول ان الخليفة يستمد سلطانه من الأمة فهي بحسب هذا الرأي مصدر قوته وهي التي تختاره لهذا المقام. ومن الجدير بالتنويه ان الشيخ علي عبد الرازق يرجح الرأي الاول وهو على حق اذ هو المطبق من الناحية الفعلية طوال العصور الأسلامية. اما الرأي الثاني فهو مثالي وبقى بعيداً عن التطبيق.
3-وبخصوص رأي الكاتب والمفكر علي عبد الرازق بوجوب نصب الخليفة من عدمه لم يجد ما يؤيد او يدعم وجوب نصب الخليفة وهذا الامر هو الذي دعا الفقهاء والمجتهدين المسلمين بنظره ان يلجأوا الى اسلوب او طريقة الاجماع والمنطق والعقل على ما بينهم من اختلاف حول هذه القضية. وبذلك يستنتج من كل ذلك ان البيعة غير واجبة على المسلمين وغير مشروطة في الدين. واذا تمت فلابد من الاعتراف بها والتعامل معها كواقع. والاجماع بنظره لا يوجد هو الآخر كدليل ثابت ومعتبر على اعتباره مصدراً لانتخاب الخليفة سواء كان اجماع الصحابة وحدهم ام الصحابة والتابعين ام اجماع المسلمين كافة. ومما لا ريب فيه ان الاجماع لا يصلح ان يكون اسلوباً لاختيار الخليفة لأن الاجماع اسلوب لتنظيم ومعالجة القضايا المدنية وليس العامة. فاقحامه في القضايا العامة يعتبر مصادرة على المطلوب لا يمكن الاخذ بها في اختيار الخليفة او تعيينه لصعوبة او استحالة هذا الاجماع حتى في الأمور المدنية او الخاصة. فهو من الناحية الواقعية لن يستخدم او يتخذ الا من قبل فئة قليلة من الفقهاء والمجتهدين في زمان ومكان معين ولمعالجة حالة خاصة في نطاق ضيق فهو اسلوب او طريقة قاصرة او محدودة نادراً ما استخدمت لمعالجة القضايا العامة فهو لم يستوعبها ويعالجها كأطار واسلوب. ودليله على كل ما تقدم هو ان حظ العلوم السياسية لدى المسلمين قياساً الى العلوم الأخرى أسوأ حظاً - لأن وجودها بينهم كان اضعف وجود. وهذا ما جعل اختيار الخلافة ينحصر في فئة قليلة هي فئة اهل الحل والعقد. فالامامة - أي الحكومة - بنظره عقد يحصل بالمبايعة من قبل هذه الفئة. واختصر تطبيقه على فترة الخلفاء الراشدين ولم يطبق بعد ذلك خلال الحقب الاسلامية التالية لتلك الفترة. وبقى امراً نظرياً لا علاقة له بالتطبيق ويفرق علي عبد الرازق بين الرسالة والرسول من جهة والسلطان والحكومة من جهة اخرى. وهو يرمي من وراء هذه التفرقة الى ان الدين عموماً والدين الاسلامي خصوصاً كان ومايزال كسائر الاديان الاخرى رسالة روحية لا علاقة له بالسياسة والحكم. لذلك يذهب الى ان الحكومة الاسلامية شأن دنيوي قائم على القوة ولا شأن لها بأمور السياسة والحكم. الا ان هناك من يعارضه ويناقض فكرته هذه وبخاصة اولئك الذين يعتبرون الاسلام ليس فقط ديناً روحياً وانما ديناً ودولة وهؤلاء يتذرعون في ذلك بارسال الرسول -ص- جيش او وحدة عسكرية في ايامه الى الحدود الرومانية واعتبرت هذه البادرة ذريعة للفتوحات الاسلامية بعد الرسول-ص- وعلي عبد الرازق يؤمن ايماناً قاطعاً بان جميع المفاهيم والوقائع التي حدثت بعد الرسول لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد. لذلك نراه يستنتج ان الخلافة ليس لها علاقة بالدين وانما هي شأن من شؤون السياسة والحكم وهذا ما جعله يدعو الى الاخذ باحدث انواع النظم السائدة في عصره وهي الديمقراطية. ومن الجدير بالذكر ان افكاره كانت تناقض الافكار التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت تدعو الى تطبيق الخلافة رغم موتها وسقوطها بسقوط الدولة العثمانية اثناء الحرب العالمية الأولى.
القسم الثاني/افكار السنهوري في اصول الحكم الاسلامي:- بادئ ذي بدء لابد من الاعتراف بأن الدكتور السنهوري يتفق مع الشيخ علي عبد الرازق بخصوص ان الفقهاء المسلمين لم يتحمسوا لدراسة الخلافة ولا غيرها من مسائل القانون العام. الا انه يختلف معه بشأن الاسباب التي ادت الى قلة وندرة اهتمام الفقهاء والمفكرين المسلمين بالشأن العام عموماً وبشأن الخلافة والحكم على وجه الخصوص ويقدم لهذه القلة والندرة سببين:
الاول - يعزوه الى الخلافات بين الفرق الاسلامية انذاك
اما السبب الثاني - فيرجعه الدكتور السنهوري لخشية وخوف المفكرين والفقهاء والمجتهدين المسلمين من نظم الحكم الاسلامية التي سادت العالم الاسلامي خاصة بعد بداية الحكم الاموي. وهذا السبب جعل اهتمام المفكرين المسلمين بالقانون العام نادراً. وقد بقى هذا الاهتمام (في حالة طفولة بسبب هذا العزوف. ونرى الدكتور السنهوري الى جانب ذلك يعتقد ان هناك فصلاً تاماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الفقه على الاقل من الناحية الفكرية. ويذهب ابعد من ذلك الى القول ان الفقه الاسلامي يبالغ في ذلك الى درجة لم تصل اليها النظم البرلمانية الحديثة). وهناك رأي آخر للسنهوري في الاجماع يعتبر دلالته او معناه او الامة صاحبة السيادة. وهو كغيره من المفكرين المسلمين قديما وحديثا يعتقد ان الشورى نوع من الديمقراطية الى جانب الاجماع والقياس واخيراً يعتبر اجتهاد المسلمين هو واحداً من مصادر الديمقراطية الاسلامية واخيراً يذهب السنهوري الى ان طريق الانتخاب ومفهومه تمت معرفتها من قبل المفكرين المسلمين وبذلك سبقوا اوربا في هذا المضمار ولا يفوتنا بهذا الشأن ان نذكر ان السنهوري قسم الخلاقة الاسلامية الى قسمين.. القسم الاول اطلق عليه اسم الخلافة الكاملة، اما القسم الثاني فأطلق عليه الخلافة الناقصة. وكان يقصد بالاولى فترة الخلفاء الراشدين وبالثانية الفترة التي تلتها. وهذا هو مجمل افكار السنهوري بهذا الخصوص.
القسم الثالث/ الملاحظات:- ما دامت الامور الفكرية والعملية تؤخذ بنتائجها فأننا في هذه الملاحظات نهدف ونتوخى من استعراض افكار كل واحد من المفكرين علي عبد الرازق وعبد الرزاق السنهوري بيان فحوى ومعنى وقيمة كل فكر من افكارهما من حيث النتائج لاسيما النتائج العملية. فيمكن على هذا الاساس تدوين هذه الملاحظات على تلك الافكار سلباً او ايجابا،ً تأييداً او نفياً بشكل نقاط موجزة ومركزة قدر المستطاع:-
1-يمكن الاتفاق مع المفكرين في ذهابهما كلاهما الى ان الفقهاء المسلمين وعموم مفكريهم كانوا قليلي الاهتمام بالامور العامة ولكن ينفرد السنهوري عن عبد الرازق ببيان سببين لظاهرة قلة الاهتمام بالشؤون العامة عموماً وشؤون الخلافة والحكم على وجه الخصوص. يبرز السبب الاول باختلاف الفرق الاسلامية اما السبب الثاني عنده فهو خوف هؤلاء المفكرين وخشيتهم من السلطة الاستبدادية ونحن لا يمكننا الا ان نتفق مع الدكتور السنهوري في سببه الثاني. الا ان السبب الاول لا نجد بخصوصه عنده دليلاً واضحاً ومعتبراً.
فاذا كان الاختلاف بين الفرق الاسلامية ينهض سبباً فيكون هذا السبب يدعو الى التوسع والاهتمام الزائد بالامور العامة وليس العكس كما يذهب الدكتور السنهوري.
2-حاول السنهوري جاهداً تقسيم الخلافة الاسلامية الى قسمين، القسم الاول اطلق عليه الخلافة الكاملة ويقصد بها فترة الخلفاء الراشدين. اما القسم الثاني الذي اطلق عليه الخلافة الناقصة فهي عنده الحقب والعصور التي تلت فترة الخلفاء الراشدين. فهذه التفرقة كأن المفكر يريد بها ان فترة الراشدين كانت تتميز بالحكم الديمقراطي والانتخاب بخلاف الحقب والعصور التي تلتها. فأنها افتقدت الديمقراطية واسلوب الانتخاب الا ان الدارس للتجربة الاسلامية عموماً لا يجد هناك فرقاً جوهرياً بشأن الديمقراطية واسلوب الانتخاب. فالخلافة الاسلامية على امتداد فتراتها لم تر أي نوع من انواع الانتخاب او الديمقراطية بمفهومها الحديث. فالتاريخ بعمومه يثبت ان الخليفة الاول جاء بعد منازعة ابرز المهاجرين مع ابرز الانصار. وقد بايعه بعض الصحابة وليس كلهم ومن ابرز من بايعه عمر بن الخطاب وابو عبيدة عامر بن الجراح وبعض زعماء الانصار من الأوس. اما الخليفة الثاني فقد جاء بترشيح ملزم من قبل الخليفة الاول وموافقة معظم الصحابة. والخليفة الثالث جاء اختياره من بين ستة رشحهم بالزام الخليفة الثاني. واما الرابع فقد تم اختياره من قبل بعض المهاجرين والانصار في المدينة بعد الثورة- الفتنة- العارمة التي ادت الى مقتل الخليفة الثالث. وبعد مقتل الخليفة الرابع تحولت الخلافة الى ملكية وراثية وبقيت خلافة بالاسم فقط. ومن خلال هذا الاستعراض الوجيز لا نجد في عملية اختيار الخلفاء الاربعة أي وسيلة او طريقة يمكن تسميتها بالانتخاب ويمكن اطلاق الوسيلة او الطريقة التي تمت بها اختيار الخلفاء الراشدين الاربعة بطريقة الاختيار وليس الانتخاب. واذا كان هناك فرق بين فترة الراشدين والفترات الاسلامية التي اعقبتها. فيكمن هذا الفرق بالجانب الشخصي للخلفاء الراشدين وليس في طبيعة وجوهر اختيارهم فهم يتميزون بشكل عام عن سلوك الخلفاء العباسيين والأمويين وغيرهم وذلك يعود اولاً الى قرب فترة الراشدين من معايير الاخلاق الاسلامية وثانياً يعود كما قلنا الى الصفات الاخلاقية الحميدة التي كان يتصف بها الخلفاء الراشدين والتي افتقدها الخلفاء او الحكام او الملوك الذين اتوا بعدهم. ولابد اخيرا من القول بخصوص الفترة الراشدة انه لو توفرت (وهذه مجرد امنية) لهذه الفترة الظروف الموضوعية والظروف الذاتية التي توفرت للخلفاء الراشدين لحدث تطور يمكن ان يكون أساساً لنظام برلماني او ديمقراطي.
وما دام هذا الامر المطلوب لم يحصل حتى غزتنا الحضارة الحديثة بانجازاتها الكبيرة والضخمة ومنها الديمقراطية فلابد من الاتفاق مع الشيخ علي عبد الرازق في دعوته الى الاخذ باحدث انواع الحكم ان وجدت لتلك الانواع الارضية الصالحة والعامل الذاتي.
3-ان التقسيم الذي قام به الشيخ علي عبد الرازق بخصوص مصدر سلطة الخليفة يمكن انطباقه على الجانب النظري في الفكر الاسلامي وليس على الجانب العملي. فواقع الحكم الاسلامي باستثناء فترة الخلفاء الراشدين كان يتميز على امتداد عصوره بالاستبداد والحكم الشمولي وهنا يتفق المفكران كلاهما على ان الواقع يختلف عن الطموح بخصوص الحكم الاسلامي.
4-يختلف السنهوري عن علي عبد الرازق بخصوص مدى افق الدين الاسلامي فالأول يعتبره ديناً ودولة، مجارياً ومتفقاً بذلك مع الكثير من المفكرين المسلمين قديماً وحديثاً اما الثاني فيعتقد ان الدين الاسلامي لا علاقة له بالسياسة والحكم وانه دين روحي كبقية الأديان الاخرى وهذا الاتجاه الاخير يكاد يتفق مع الافكار الحديثة التي تدعو الى فصل الدين عن السياسة. ولابد من القول هنا ان الاخذ بالاتجاه الاول أي اعتبار الدين الاسلامي ديناً ودولة قد كلف ويكلف المسلمين الكثير من العنف والشدة وما ظاهرة الارهاب التي نعيش في نيرانها المحرقة الا دليل على الاضرار الفادحة التي ترتبت على الاخذ بالاتجاه الاول.
5-سبق وتم ذكر اعتقاد السنهوري ان هناك فصلاً تاماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الفقه الاسلامي وهذا الاعتقاد ليس له دليل يؤيده من الناحية النظرية، اما من الناحية العملية فلم نجد من خلال الحكومات الاسلامية قديماً وحديثا ما يؤيد الاخذ به ويبدوان هذا الاتجاه لدى الدكتور السنهوري هو شكل من اشكال رد الفعل الذي كثيراً ما اصيب به بعض او غالبية المفكرين الذين يعتقدون بصلاحية الافكار الاسلامية لكل زمان ومكان ويدعون الى تطبيقها بغض النظر عن صلاحيتها لهذا المكان او ذاك الزمان وسبب رد الفعل هذا بفعل التخلف الذي كان ومازال يعيش تحت ظله الشرق في جميع مجالات الحياة ومنها الجانب الذي يتعلق بالحكم وبالسياسة. وهو بذات الوقت كان ومازال نتيجة الشعور بمركب نقص الشعوب المتخلفة.
6-ومن المسائل التي تمسك بها السنهوري هو الاجماع والقياس الى جانب الشورى ولم يكتف بذلك وانما ادعى الى تكوين مجالس للشورى في الوقت الحاضر. فالاجماع والقياس والاجتهاد كما معروف وباعتراف السنهوري نفسه ان الفقهاء المسلمين حاولوا تطبيقها على الامور التي تتعلق بالقانون الخاص لان اهتمامهم بالقانون العام والخلافة وشؤون الحكم كان نادراً ان لم يكن معدوماً. فكيف تحول لديه الى اسلوب او طريقة لوضع نظرية عن الديمقراطية والانتخابات. فمن المعلوم ان النظام الديمقراطي عموماً وطرق واساليب الانتخابات خصوصاً لم تر النور الا بعد النهضة الاوربية الحديثة وبعد تجربة بريطانيا فيها وبعد اعلانها النظري علي يد المفكر الفرنسي- مونتسكيو- بعد تأثره بالتجربة الانكليزية في بداية الفصل بين السلطات. فأقحام السنهوري لهذه الفكرة الحديثة والتجربة الحديثة واطلاقها على الاساليب والطرق الحكومية التي اتخذت من خلال الحكم الاسلامي والى تشبهها بالافكار الاسلامية حول القياس والاجماع ان دل على شيء فهو يدل على عدم الدقة في مقارناته بين الافكار الاسلامية والافكار الحديثة. اما بشأن مجالس الشورى التي دعا الى الاخذ بها في الوقت الحاضر فقد فات اوانها بعد ان غزت الحضارة الحديثة الشرق في عقر داره ومن منجزات ووسائل تلك الحضارة هي النظم البرلمانية واساليب الانتخاب الحديثة لذلك اصبحت الدعوة الى الاخذ بالشورى الاسلامية دعوى لا تستحق حتى مناقشتها لفوات اوانها كما قلنا. واذا كانت بعض الدول الاسلامية التي تزعم تطبيق النظم الاسلامية ان تسمى النظم الحديثة المطبقة بأسماء اسلامية فهي عبارة عن ضحك ليس على ذقون المسلمين وانما حتى على ذقون القائمين بها. ولابد من الاشارة ولو بايجاز شديد الى ان الشورى كانت تقتصر في تطبيقها وبخاصة في فترة الخلفاء الراشدين على فئة قليلة من الصحابة يسمون بأهل الحل والعقد. ولم تتطور الى نظام انتخابي او برلماني متطور وقد قبرت وانتهى وقتها بعد فترة الخلفاء الراشدين وتحول الحكم بعدهم الى حكم مطلق واستبدادي لا سبيل فيه لاي نوع من انواع الحكم البرلماني او الديمقراطي.
7-من الملاحظ على افكار الدكتور السنهوري المبسوطة في كتابه موضوع بحث هذه المقالة. انه ساير السلفيين الى ابعد حد عندما آمن بدون تمييز او تمحيص بان هناك احاديث- قلت او كثرت- التي تنسب الى الرسول (ص) بخصوص حصر الخلافة بقريش وان هناك انتخابات تمت لبعض الخلفاء الأمويين. فمن خلال كتابه وكتاب الشيخ علي عبد الرازق نلاحظ بوضوح ان الاحاديث التي نسبت الى الرسول - ص- والتي تقول بحصر الخلافة في قريش مشكوك الى حد كبير في صحتها لاسيما ان فرق الخوارج وبعض المعتزلة انكروا نسبتها الى الرسول - ص- ويمكن القول ان هذه الاحاديث وضعت من قبل وعاظ الحكام والسلاطين والخلفاء لتبرير الحكم العباسي والأموي. وكان من المفروض بالسنهوري ذلك الفقيه الكبير وذو الاطلاع الواسع على الشريعة الاسلامية ان يقوم بفحص وتمحيص الاحاديث وتفريق الصحيحة منها عن الموضوعة من قبل هذه الحكومات.
والخلاصة المستفادة من استعراض افكار هذين المفكرين نلاحظ ان علي عبد الرازق رغم خروجه من عباءة الازهر ورغم الملاحظات السلبية في بعض أفكاره إلا انه يعتبر بجدارة من رواد التنوير الشرقيين بعد وصول الحضارة الحديثة الى الشرق وابرز الداعين الاخذ بها وبمنجزاتها والوقوف ضد ظاهرة ماتت واكل الدهور عليها وشرب. وهي ظاهرة الخلافة والتي لم تجد لها مكاناً الا بعقول وبأدمغة السلفيين. ولكن من المؤسف حقاً ان يكون هذا الفقيه والمفكر الكبير الذي وضع بصماته الواضحة على النظام القانوني المدني في بعض الدول العربية الى جانب اسهامه الكبير في الفكر القانوني خلال مؤلفاته الواسعة التي تتلمذ عليها الكثير من المفكرين القانونيين في البلاد العربية او معظمها على الاقل ونقصد به الدكتور السنهوري الذي وقف في كتابه هذا موقفاً الى جانب السلفيين بل ذهب في موقفه الى ابعد منهم كثيرا. وكأن المثل الذي قيل (ملكي اكثر من الملكيين)يكاد ينطبق عليه بخصوص الافكار السلفية فهو بهذا الكتاب اصبح سلفياً اكثر من السلفيين.
القسم الاول يتناول اهم افكار الشيخ علي عبد الرازق
والقسم الثاني يتناول اهم افكار عبد الرزاق السنهوري
اما القسم الثالث فيخصص الى ابداء بعض الملاحظات حول الكتابين.
القسم الاول/ اهم افكار علي عبد الرازق:- لقد أثار الشيخ علي عبد الرازق بكتابه- الاسلام واصول الحكم- ضجة كبرى يستحقها بجدارة لاهميته ابتداءً من صدوره عام 1925. حيث اعتبر من قبل الكثيرين خروجاً على المفاهيم السائدة عن الدولة الدينية وتأكيداً لدعائم الدولة المدنية. ومن الجدير بالذكر ان الشيخ علي عبد الرازق كان قد فقد وظيفته في القضاء الشرعي في مصر آنذاك ثمناً لاجتهاده الشجاع في الافكار التي طرحها انذاك وفي دعوته الى الحكم المدني في كتابه هذا. ومن المفيد التركيز على اهم افكار الشيخ علي عبد الرازق التي وردت في كتابه وعلى شكل نقاط:-
1-لقد تصدر كتابه التعريف بالخلافة لغة واصطلاحاً. فالخلافة لغة هي مصدر تخلف فلان فلاناً اذا تأخر عنه واذا جاء خلف اخر واذا قام مقامه. ويقال خلف فلان فلاناً اذا اقام بالامر عنه أما معه او بعده. وتعني الخلافة من بين ما تعني النيابة عن الغير اما لغيبة المنوب عنه واما لموته او لعجزه … الخ. والخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف. والخليفة تعني السلطان الاعظم. والخلافة في لغة المسلمين ومرادفها في المعنى الامامة وهي رياسة عامة في امور الدين والدنيا نيابة عن النبي. وتعني الخلافة اصطلاحاً ان السلطان او الحاكم خليفة رسول الله وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده ومن كان ظل الله في ارضه، وخليفة رسول الله. فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى وولاية رسول الله الكريم. وعلى هذا الأساس ان يكون الخليفة له حق التصرف في رقاب الناس واموالهم وابضاعهم وهناك رأي وفق علي عبد الرازق يذهب الى ان الخليفة اذا جار او فجر انعزل عن الخلافة.
2-هناك رأيان وفق علي عبد الرازق الاول يقول: ان الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوة الله تعالى. أما الرأي الثاني فيقول ان الخليفة يستمد سلطانه من الأمة فهي بحسب هذا الرأي مصدر قوته وهي التي تختاره لهذا المقام. ومن الجدير بالتنويه ان الشيخ علي عبد الرازق يرجح الرأي الاول وهو على حق اذ هو المطبق من الناحية الفعلية طوال العصور الأسلامية. اما الرأي الثاني فهو مثالي وبقى بعيداً عن التطبيق.
3-وبخصوص رأي الكاتب والمفكر علي عبد الرازق بوجوب نصب الخليفة من عدمه لم يجد ما يؤيد او يدعم وجوب نصب الخليفة وهذا الامر هو الذي دعا الفقهاء والمجتهدين المسلمين بنظره ان يلجأوا الى اسلوب او طريقة الاجماع والمنطق والعقل على ما بينهم من اختلاف حول هذه القضية. وبذلك يستنتج من كل ذلك ان البيعة غير واجبة على المسلمين وغير مشروطة في الدين. واذا تمت فلابد من الاعتراف بها والتعامل معها كواقع. والاجماع بنظره لا يوجد هو الآخر كدليل ثابت ومعتبر على اعتباره مصدراً لانتخاب الخليفة سواء كان اجماع الصحابة وحدهم ام الصحابة والتابعين ام اجماع المسلمين كافة. ومما لا ريب فيه ان الاجماع لا يصلح ان يكون اسلوباً لاختيار الخليفة لأن الاجماع اسلوب لتنظيم ومعالجة القضايا المدنية وليس العامة. فاقحامه في القضايا العامة يعتبر مصادرة على المطلوب لا يمكن الاخذ بها في اختيار الخليفة او تعيينه لصعوبة او استحالة هذا الاجماع حتى في الأمور المدنية او الخاصة. فهو من الناحية الواقعية لن يستخدم او يتخذ الا من قبل فئة قليلة من الفقهاء والمجتهدين في زمان ومكان معين ولمعالجة حالة خاصة في نطاق ضيق فهو اسلوب او طريقة قاصرة او محدودة نادراً ما استخدمت لمعالجة القضايا العامة فهو لم يستوعبها ويعالجها كأطار واسلوب. ودليله على كل ما تقدم هو ان حظ العلوم السياسية لدى المسلمين قياساً الى العلوم الأخرى أسوأ حظاً - لأن وجودها بينهم كان اضعف وجود. وهذا ما جعل اختيار الخلافة ينحصر في فئة قليلة هي فئة اهل الحل والعقد. فالامامة - أي الحكومة - بنظره عقد يحصل بالمبايعة من قبل هذه الفئة. واختصر تطبيقه على فترة الخلفاء الراشدين ولم يطبق بعد ذلك خلال الحقب الاسلامية التالية لتلك الفترة. وبقى امراً نظرياً لا علاقة له بالتطبيق ويفرق علي عبد الرازق بين الرسالة والرسول من جهة والسلطان والحكومة من جهة اخرى. وهو يرمي من وراء هذه التفرقة الى ان الدين عموماً والدين الاسلامي خصوصاً كان ومايزال كسائر الاديان الاخرى رسالة روحية لا علاقة له بالسياسة والحكم. لذلك يذهب الى ان الحكومة الاسلامية شأن دنيوي قائم على القوة ولا شأن لها بأمور السياسة والحكم. الا ان هناك من يعارضه ويناقض فكرته هذه وبخاصة اولئك الذين يعتبرون الاسلام ليس فقط ديناً روحياً وانما ديناً ودولة وهؤلاء يتذرعون في ذلك بارسال الرسول -ص- جيش او وحدة عسكرية في ايامه الى الحدود الرومانية واعتبرت هذه البادرة ذريعة للفتوحات الاسلامية بعد الرسول-ص- وعلي عبد الرازق يؤمن ايماناً قاطعاً بان جميع المفاهيم والوقائع التي حدثت بعد الرسول لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد. لذلك نراه يستنتج ان الخلافة ليس لها علاقة بالدين وانما هي شأن من شؤون السياسة والحكم وهذا ما جعله يدعو الى الاخذ باحدث انواع النظم السائدة في عصره وهي الديمقراطية. ومن الجدير بالذكر ان افكاره كانت تناقض الافكار التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت تدعو الى تطبيق الخلافة رغم موتها وسقوطها بسقوط الدولة العثمانية اثناء الحرب العالمية الأولى.
القسم الثاني/افكار السنهوري في اصول الحكم الاسلامي:- بادئ ذي بدء لابد من الاعتراف بأن الدكتور السنهوري يتفق مع الشيخ علي عبد الرازق بخصوص ان الفقهاء المسلمين لم يتحمسوا لدراسة الخلافة ولا غيرها من مسائل القانون العام. الا انه يختلف معه بشأن الاسباب التي ادت الى قلة وندرة اهتمام الفقهاء والمفكرين المسلمين بالشأن العام عموماً وبشأن الخلافة والحكم على وجه الخصوص ويقدم لهذه القلة والندرة سببين:
الاول - يعزوه الى الخلافات بين الفرق الاسلامية انذاك
اما السبب الثاني - فيرجعه الدكتور السنهوري لخشية وخوف المفكرين والفقهاء والمجتهدين المسلمين من نظم الحكم الاسلامية التي سادت العالم الاسلامي خاصة بعد بداية الحكم الاموي. وهذا السبب جعل اهتمام المفكرين المسلمين بالقانون العام نادراً. وقد بقى هذا الاهتمام (في حالة طفولة بسبب هذا العزوف. ونرى الدكتور السنهوري الى جانب ذلك يعتقد ان هناك فصلاً تاماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الفقه على الاقل من الناحية الفكرية. ويذهب ابعد من ذلك الى القول ان الفقه الاسلامي يبالغ في ذلك الى درجة لم تصل اليها النظم البرلمانية الحديثة). وهناك رأي آخر للسنهوري في الاجماع يعتبر دلالته او معناه او الامة صاحبة السيادة. وهو كغيره من المفكرين المسلمين قديما وحديثا يعتقد ان الشورى نوع من الديمقراطية الى جانب الاجماع والقياس واخيراً يعتبر اجتهاد المسلمين هو واحداً من مصادر الديمقراطية الاسلامية واخيراً يذهب السنهوري الى ان طريق الانتخاب ومفهومه تمت معرفتها من قبل المفكرين المسلمين وبذلك سبقوا اوربا في هذا المضمار ولا يفوتنا بهذا الشأن ان نذكر ان السنهوري قسم الخلاقة الاسلامية الى قسمين.. القسم الاول اطلق عليه اسم الخلافة الكاملة، اما القسم الثاني فأطلق عليه الخلافة الناقصة. وكان يقصد بالاولى فترة الخلفاء الراشدين وبالثانية الفترة التي تلتها. وهذا هو مجمل افكار السنهوري بهذا الخصوص.
القسم الثالث/ الملاحظات:- ما دامت الامور الفكرية والعملية تؤخذ بنتائجها فأننا في هذه الملاحظات نهدف ونتوخى من استعراض افكار كل واحد من المفكرين علي عبد الرازق وعبد الرزاق السنهوري بيان فحوى ومعنى وقيمة كل فكر من افكارهما من حيث النتائج لاسيما النتائج العملية. فيمكن على هذا الاساس تدوين هذه الملاحظات على تلك الافكار سلباً او ايجابا،ً تأييداً او نفياً بشكل نقاط موجزة ومركزة قدر المستطاع:-
1-يمكن الاتفاق مع المفكرين في ذهابهما كلاهما الى ان الفقهاء المسلمين وعموم مفكريهم كانوا قليلي الاهتمام بالامور العامة ولكن ينفرد السنهوري عن عبد الرازق ببيان سببين لظاهرة قلة الاهتمام بالشؤون العامة عموماً وشؤون الخلافة والحكم على وجه الخصوص. يبرز السبب الاول باختلاف الفرق الاسلامية اما السبب الثاني عنده فهو خوف هؤلاء المفكرين وخشيتهم من السلطة الاستبدادية ونحن لا يمكننا الا ان نتفق مع الدكتور السنهوري في سببه الثاني. الا ان السبب الاول لا نجد بخصوصه عنده دليلاً واضحاً ومعتبراً.
فاذا كان الاختلاف بين الفرق الاسلامية ينهض سبباً فيكون هذا السبب يدعو الى التوسع والاهتمام الزائد بالامور العامة وليس العكس كما يذهب الدكتور السنهوري.
2-حاول السنهوري جاهداً تقسيم الخلافة الاسلامية الى قسمين، القسم الاول اطلق عليه الخلافة الكاملة ويقصد بها فترة الخلفاء الراشدين. اما القسم الثاني الذي اطلق عليه الخلافة الناقصة فهي عنده الحقب والعصور التي تلت فترة الخلفاء الراشدين. فهذه التفرقة كأن المفكر يريد بها ان فترة الراشدين كانت تتميز بالحكم الديمقراطي والانتخاب بخلاف الحقب والعصور التي تلتها. فأنها افتقدت الديمقراطية واسلوب الانتخاب الا ان الدارس للتجربة الاسلامية عموماً لا يجد هناك فرقاً جوهرياً بشأن الديمقراطية واسلوب الانتخاب. فالخلافة الاسلامية على امتداد فتراتها لم تر أي نوع من انواع الانتخاب او الديمقراطية بمفهومها الحديث. فالتاريخ بعمومه يثبت ان الخليفة الاول جاء بعد منازعة ابرز المهاجرين مع ابرز الانصار. وقد بايعه بعض الصحابة وليس كلهم ومن ابرز من بايعه عمر بن الخطاب وابو عبيدة عامر بن الجراح وبعض زعماء الانصار من الأوس. اما الخليفة الثاني فقد جاء بترشيح ملزم من قبل الخليفة الاول وموافقة معظم الصحابة. والخليفة الثالث جاء اختياره من بين ستة رشحهم بالزام الخليفة الثاني. واما الرابع فقد تم اختياره من قبل بعض المهاجرين والانصار في المدينة بعد الثورة- الفتنة- العارمة التي ادت الى مقتل الخليفة الثالث. وبعد مقتل الخليفة الرابع تحولت الخلافة الى ملكية وراثية وبقيت خلافة بالاسم فقط. ومن خلال هذا الاستعراض الوجيز لا نجد في عملية اختيار الخلفاء الاربعة أي وسيلة او طريقة يمكن تسميتها بالانتخاب ويمكن اطلاق الوسيلة او الطريقة التي تمت بها اختيار الخلفاء الراشدين الاربعة بطريقة الاختيار وليس الانتخاب. واذا كان هناك فرق بين فترة الراشدين والفترات الاسلامية التي اعقبتها. فيكمن هذا الفرق بالجانب الشخصي للخلفاء الراشدين وليس في طبيعة وجوهر اختيارهم فهم يتميزون بشكل عام عن سلوك الخلفاء العباسيين والأمويين وغيرهم وذلك يعود اولاً الى قرب فترة الراشدين من معايير الاخلاق الاسلامية وثانياً يعود كما قلنا الى الصفات الاخلاقية الحميدة التي كان يتصف بها الخلفاء الراشدين والتي افتقدها الخلفاء او الحكام او الملوك الذين اتوا بعدهم. ولابد اخيرا من القول بخصوص الفترة الراشدة انه لو توفرت (وهذه مجرد امنية) لهذه الفترة الظروف الموضوعية والظروف الذاتية التي توفرت للخلفاء الراشدين لحدث تطور يمكن ان يكون أساساً لنظام برلماني او ديمقراطي.
وما دام هذا الامر المطلوب لم يحصل حتى غزتنا الحضارة الحديثة بانجازاتها الكبيرة والضخمة ومنها الديمقراطية فلابد من الاتفاق مع الشيخ علي عبد الرازق في دعوته الى الاخذ باحدث انواع الحكم ان وجدت لتلك الانواع الارضية الصالحة والعامل الذاتي.
3-ان التقسيم الذي قام به الشيخ علي عبد الرازق بخصوص مصدر سلطة الخليفة يمكن انطباقه على الجانب النظري في الفكر الاسلامي وليس على الجانب العملي. فواقع الحكم الاسلامي باستثناء فترة الخلفاء الراشدين كان يتميز على امتداد عصوره بالاستبداد والحكم الشمولي وهنا يتفق المفكران كلاهما على ان الواقع يختلف عن الطموح بخصوص الحكم الاسلامي.
4-يختلف السنهوري عن علي عبد الرازق بخصوص مدى افق الدين الاسلامي فالأول يعتبره ديناً ودولة، مجارياً ومتفقاً بذلك مع الكثير من المفكرين المسلمين قديماً وحديثاً اما الثاني فيعتقد ان الدين الاسلامي لا علاقة له بالسياسة والحكم وانه دين روحي كبقية الأديان الاخرى وهذا الاتجاه الاخير يكاد يتفق مع الافكار الحديثة التي تدعو الى فصل الدين عن السياسة. ولابد من القول هنا ان الاخذ بالاتجاه الاول أي اعتبار الدين الاسلامي ديناً ودولة قد كلف ويكلف المسلمين الكثير من العنف والشدة وما ظاهرة الارهاب التي نعيش في نيرانها المحرقة الا دليل على الاضرار الفادحة التي ترتبت على الاخذ بالاتجاه الاول.
5-سبق وتم ذكر اعتقاد السنهوري ان هناك فصلاً تاماً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الفقه الاسلامي وهذا الاعتقاد ليس له دليل يؤيده من الناحية النظرية، اما من الناحية العملية فلم نجد من خلال الحكومات الاسلامية قديماً وحديثا ما يؤيد الاخذ به ويبدوان هذا الاتجاه لدى الدكتور السنهوري هو شكل من اشكال رد الفعل الذي كثيراً ما اصيب به بعض او غالبية المفكرين الذين يعتقدون بصلاحية الافكار الاسلامية لكل زمان ومكان ويدعون الى تطبيقها بغض النظر عن صلاحيتها لهذا المكان او ذاك الزمان وسبب رد الفعل هذا بفعل التخلف الذي كان ومازال يعيش تحت ظله الشرق في جميع مجالات الحياة ومنها الجانب الذي يتعلق بالحكم وبالسياسة. وهو بذات الوقت كان ومازال نتيجة الشعور بمركب نقص الشعوب المتخلفة.
6-ومن المسائل التي تمسك بها السنهوري هو الاجماع والقياس الى جانب الشورى ولم يكتف بذلك وانما ادعى الى تكوين مجالس للشورى في الوقت الحاضر. فالاجماع والقياس والاجتهاد كما معروف وباعتراف السنهوري نفسه ان الفقهاء المسلمين حاولوا تطبيقها على الامور التي تتعلق بالقانون الخاص لان اهتمامهم بالقانون العام والخلافة وشؤون الحكم كان نادراً ان لم يكن معدوماً. فكيف تحول لديه الى اسلوب او طريقة لوضع نظرية عن الديمقراطية والانتخابات. فمن المعلوم ان النظام الديمقراطي عموماً وطرق واساليب الانتخابات خصوصاً لم تر النور الا بعد النهضة الاوربية الحديثة وبعد تجربة بريطانيا فيها وبعد اعلانها النظري علي يد المفكر الفرنسي- مونتسكيو- بعد تأثره بالتجربة الانكليزية في بداية الفصل بين السلطات. فأقحام السنهوري لهذه الفكرة الحديثة والتجربة الحديثة واطلاقها على الاساليب والطرق الحكومية التي اتخذت من خلال الحكم الاسلامي والى تشبهها بالافكار الاسلامية حول القياس والاجماع ان دل على شيء فهو يدل على عدم الدقة في مقارناته بين الافكار الاسلامية والافكار الحديثة. اما بشأن مجالس الشورى التي دعا الى الاخذ بها في الوقت الحاضر فقد فات اوانها بعد ان غزت الحضارة الحديثة الشرق في عقر داره ومن منجزات ووسائل تلك الحضارة هي النظم البرلمانية واساليب الانتخاب الحديثة لذلك اصبحت الدعوة الى الاخذ بالشورى الاسلامية دعوى لا تستحق حتى مناقشتها لفوات اوانها كما قلنا. واذا كانت بعض الدول الاسلامية التي تزعم تطبيق النظم الاسلامية ان تسمى النظم الحديثة المطبقة بأسماء اسلامية فهي عبارة عن ضحك ليس على ذقون المسلمين وانما حتى على ذقون القائمين بها. ولابد من الاشارة ولو بايجاز شديد الى ان الشورى كانت تقتصر في تطبيقها وبخاصة في فترة الخلفاء الراشدين على فئة قليلة من الصحابة يسمون بأهل الحل والعقد. ولم تتطور الى نظام انتخابي او برلماني متطور وقد قبرت وانتهى وقتها بعد فترة الخلفاء الراشدين وتحول الحكم بعدهم الى حكم مطلق واستبدادي لا سبيل فيه لاي نوع من انواع الحكم البرلماني او الديمقراطي.
7-من الملاحظ على افكار الدكتور السنهوري المبسوطة في كتابه موضوع بحث هذه المقالة. انه ساير السلفيين الى ابعد حد عندما آمن بدون تمييز او تمحيص بان هناك احاديث- قلت او كثرت- التي تنسب الى الرسول (ص) بخصوص حصر الخلافة بقريش وان هناك انتخابات تمت لبعض الخلفاء الأمويين. فمن خلال كتابه وكتاب الشيخ علي عبد الرازق نلاحظ بوضوح ان الاحاديث التي نسبت الى الرسول - ص- والتي تقول بحصر الخلافة في قريش مشكوك الى حد كبير في صحتها لاسيما ان فرق الخوارج وبعض المعتزلة انكروا نسبتها الى الرسول - ص- ويمكن القول ان هذه الاحاديث وضعت من قبل وعاظ الحكام والسلاطين والخلفاء لتبرير الحكم العباسي والأموي. وكان من المفروض بالسنهوري ذلك الفقيه الكبير وذو الاطلاع الواسع على الشريعة الاسلامية ان يقوم بفحص وتمحيص الاحاديث وتفريق الصحيحة منها عن الموضوعة من قبل هذه الحكومات.
والخلاصة المستفادة من استعراض افكار هذين المفكرين نلاحظ ان علي عبد الرازق رغم خروجه من عباءة الازهر ورغم الملاحظات السلبية في بعض أفكاره إلا انه يعتبر بجدارة من رواد التنوير الشرقيين بعد وصول الحضارة الحديثة الى الشرق وابرز الداعين الاخذ بها وبمنجزاتها والوقوف ضد ظاهرة ماتت واكل الدهور عليها وشرب. وهي ظاهرة الخلافة والتي لم تجد لها مكاناً الا بعقول وبأدمغة السلفيين. ولكن من المؤسف حقاً ان يكون هذا الفقيه والمفكر الكبير الذي وضع بصماته الواضحة على النظام القانوني المدني في بعض الدول العربية الى جانب اسهامه الكبير في الفكر القانوني خلال مؤلفاته الواسعة التي تتلمذ عليها الكثير من المفكرين القانونيين في البلاد العربية او معظمها على الاقل ونقصد به الدكتور السنهوري الذي وقف في كتابه هذا موقفاً الى جانب السلفيين بل ذهب في موقفه الى ابعد منهم كثيرا. وكأن المثل الذي قيل (ملكي اكثر من الملكيين)يكاد ينطبق عليه بخصوص الافكار السلفية فهو بهذا الكتاب اصبح سلفياً اكثر من السلفيين.